بديهة العرب
ليس هناك أمة عرفت بسرعة البديهة كأمة العرب. مكنهم من ذلك هذه اللغة الواسعة وما حوته من كثير المفردات وعظيم التركيبات، ورائع الأساليب، فضلا عما أفاء الله تعالى على العرب من سعة في التفكير ودقة في التعبير.
وسرعة البديهة مَلَكةٌ وهبها الله أمة العرب. وأجلى العرب بديهة وأفصحهم لفظا وأبلغهم عبارة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحاديثه أبلغ ما سمعت العرب من قول بعد كتاب الله عز وجل.
ومن سرعة البديهة في الكتاب العزيز ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام في محاورته للنمروذ، يقول تعالى في سورة البقرة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258)).
ذلك أن إبراهيم عليه السلام كان قادرا أن يرد الحجة على النمروذ بأنه إذا قتل إنسانا فلا يعني ذلك أنه هو الذي أماته، وإذا عفا عن إنسان كان من المفروض قتله فليس معنى ذلك أنه أحياه، وإنما الإحياء يعني الخلق، إلا أن حصافة إبراهيم عليه السلام دعته ألا يركب هذا المركب لعلمه أن معظم الموجودين من أتباع النمروذ وسوف ينتصرون له فأراد أن يفحمه بأمر لا يستطيع المنافقون أن يلتمسوا فيه شيئا !
أعرابي عند الحجاج
يروى أن أعرابيا طلب الدخول على الحجاج بن يوسف، فأذن له فدخل والعصا في يده فغضب الحجاج حتى ظهر الغضب في وجهه وقال له مستنكرا: ما هذه العصا التي بيدك ففهم الأعرابي قصد الحجاج فقال على الفور: هي عصاي، أركّزها لصلاتي، وأُعِدها لعِداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوّي بها سفري، وأعتمد عليها في مِشيتي ليتسع بها خَطْوِي..
وأثِبُ بها على النهر، وآمن بها من العَثْر، وأُلْقِي عليها كسائي فيقيني الحر، ويجنّبني القُرّ، وتُدْنِي إليّ ما بَعُدَ عني، وهي مَحْمَل سَفْرتي، وعِلاقة إداوَتي، أقرع بها الأبواب، وألقى بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورِثْتها عن أبي، وسأوَرِّثها ولدي من بعدي، وأهُشّ بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، فأعجب به الحجاج وأكرمه.
أبو يوسف
ومن سرعة البديهة ما يروى من أن قاضي القضاة أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى جلس يكتب كتابا وتصادف أن كان أحد الناس بجواره ويبدو أنه كان متطفلا إذ جعل يراقب الكتاب كلمة كلمة، وقد تنبه إليه أبو يوسف إذ رآه من طرف خفي فتصنع أنه لم يره حتى أتم الكتاب ثم قال للرجل: أرأيت في الكتاب خطأ؟ قال: لا والله بل هو صحيح كله، قال أبو يوسف جزاك الله يا أخي عن خساستك خير الجزاء!
بديهة بالتلميح
روي أن رجلاً مر على جسر بغداد فمرت فتاة جميلة فأبصرها شاب كان جالسا وقال: رحم الله عليّ بن الجَهْم، فقالت ورحم الله أبا العلاء ! وانصرفت فعجب الرجل مما سمعه من الفتى والفتاة فتوجه إلى الفتى وأقسم له إن لم يوضح له الأمر ليشكونه إلى رجال الشرط. فقال له إني قلت رحم الله علي بن الجهم أقصد قوله في قصيدة له:
عيونُ الْمَهَا بين الرَّصَافَةِ والجِسْرِ جَلَبْنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
فردَّتْ هي مترحمة على أبي العلاء المعري ففهمت أنها فهمت قصدي وأنها تقصد بيت شعر لأبي العلاء يقول فيه:
أيا دارَها بالخَيْفِ إن مزارَها قريبٌ ولكنْ دونَ ذلك أهوالُ
يقول الرجل فانصرفت وأنا لا أدري بأي شي أكون أكثر عجبا، أمن ذكاء الفتى أم من لماحية الفتاة وحسن حفظها، أم من غفلتي وجهلي وعدم حفظي!
وإلى أمسية الغد إن شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق