نسمع كثيرا عن فطاحلة الشعر والأدب، وأصحاب الفراسة والحدس، لما لهممن قدرات وامكانات لغوية عجيبة، قد تمر على الكثيرين في معناها، ويغفلونعن مغزاها.ومن القصص اللطيفة في هذا السياق ما جرى بين المرأة البرمكيةوالخليفة الصالح هارون الرشيد.
دخلت المرأة البرمكية على الخليفة هارون الرشيد، وعنده جماعة من وجوهأصحابه، فقالت له: يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك، وفرّحك بما أتاك، وأتمّسعدك، لقد حكمت فقسطت.
فقال لها الرشيد: من تكونين أيتها المرأة؟
فقالت: أنا من آل برمك، ممن قتلت رجالهم، وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم.
فرد هارون الرشيد: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفّذ فيهم قدره، وأماالمال فمردود اليك.
ثم التفت الى الحاضرين من أصحابه فسألهم: أتدرون ما قالت المرأةالبرمكية؟
فقالوا: ما نراها قالت الا خيراً؟!
فقال الرشيد لأصحابه، وقد كان معهودٌ عنه البلاغة: ما أظنكم فهمتممقصدها، فأما قولها «أقرّ الله عينك»، أي أسكنها عن الحركة، واذا سكنتالعين عن الحركة عميت.
وأما قولها «فرّحك بما أتاك»، فأخذته من قوله تعالى: {حتى اذا فرحوا بماأوتوا أخذناهم بغتة}
وأما قولها: «أتم الله سعدك»، فأخذته من قول الشاعر:
اذا تمّ شيئا بدا نقصه
ترقّب زوالا اذا قيل تم
وفي قولها: «لقد حكمت فقسطت»، فأخذته من قول الله تعالى: «وأماالقاسطون فكانوا لجهنّم حطبا».
فتعجّب أصحاب الخليفة العباسي هارون الرشيد من بلاغة المرأة البرمكية،وعلم كلامها الغزير، فلقد كانت تدعو عليه بدل الدعاء له، من دون ان يلاحظفقهاء القوم وأبلغهم.
وأما العجب الأكبر.. فكان حنكة هارون الرشيد، وذكاؤه في فهم مقصد المرأةالبرمكية ومطلبها، حيث كان حذرا جدا معها، وفهم بالضبط ما كانت ترمي اليه.
فكم من بليغ بقي في هذا الزمان؟! وكيف لنا ان نعلم أبناءنا البلاغة والحنكةوالفراسة؟ انها القراءة والتعلم، ومجالسة أهل الحكمة والخبرة، والصبروالتصبر.
٭٭٭
«لا تجادل الأحمق، فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما».
د.عصام عبداللطيف الفليج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق