الاثنين، 22 أبريل 2024

قصيدة علي الجارم. قد ينجد اللج الغريق بقذفه

 تحِيَّة دَار الإذاعة

احتفلت دار الإذاعة في شهر أبريل سنة ١٩٣٧م بانتهاء العام الثالث من إنشائها،ودعت لذلك نخبةً من رجال العلم والأدب في مصر؛ ليذيع كل منهم كلمة فيهذا الصدد، فاختصها الشاعر بهذه القصيدة وأذاعها في هذه المناسبة.

سارِي الْهَواءِ مَلَكْتَ أيَّ جَناحِ

وحَلَلْتَ أيَّ مَشارِفٍ وَبِطاحِ!١

وبِأَيِّ ناحِيَةٍ أَقَمْتَ؟ فإِنَّني 

أَلْقاكَ بَيْنَ تَوَثُّبٍ وجِماحِ

في كُلِّ مَغْدًى مِنْ ذُيُولِكَ مَسحَبٌ 

وخُطاكَ ماثِلَةٌ بِكُلِّ مَراحِ٢

تَجْرِي فَتَنْتَظِمُ الْمَدَائِنَ والْقُرَى 

وتَفُوتُهُنَّ إِلى مَدًى فَيَّاحِ٣

لا الْبَرْقُ يَسْرِي حَيْث سِرْتَ ولا رَمَى 

نَسْرٌ إِلى ما رُمْتَهُ بِجنَاحِ٤

يَكْبُو الظَّلِيمُ، وأَيْنَ مِنْكَ عِداؤُهُ؟ 

ويَكِلُّ جُهْدُ الأَجْرَدِ السَّبّاحِ٥

تَمْضِي فلا تَقِف الْعَوَائِقُ حائِلًا 

وتَمُرُّ بَيْنَ الصَّلْدِ والصُّفّاحِ٦

دانٍ وما عَلقتْ بِشَخْصِكَ أَعْيُنٌ 

يَوْمًا، ولا مُسَّتْ يَداكَ بِراحِ٧

تَتَمايَلُ الأشْباحُ إنْ تَخْطِرْ بِها ومِنَ

 السُّرورِ تَمايُلُ الأَشْباحِ٨

وتَهُزُّ أَدْواحَ الرياضِ فَتَنْثَنِي 

شَوْقًا إِلَيْكَ بَواسِقُ الأَدْواحِ

لَوْلاكَ ما صَبَّ الغَمامُ عيوُنَهُ 

تَسْقِي البِطاحَ بِوابِلٍ سَحّاحِ٩

لَوْلاكَ ما زَهَتِ الرُّبا بِمُرَقَّشٍ 

مِنْ نَسْجِ مَنْثُورٍ وَوَشْيِ أقاحِيِ١٠

قَدَحُ الْحَيَاةِوَأَنْتَ أَغْلَى مَشْرَبًا 

مِنْ صَفْوَةِ الْمَاذِيِّ فِي الأَقْدَاحِ١١

•••

سِرْ يا هَواءُ فَأنْتَ أَوْطَأُ مَرْكَبٍ 

وَاهْتِفْ بَصَوْتِ الطَّائِرِ الصَدَّاحِ١٢

واحْرِصْ عَلَى سِحْرِ الْبَيَانِ وَوَحْيِهِ 

وَارْفُقْ بآيٍ في الْقَرِيض فِصاحِ

جَمَعَتْ منَ الزَّهْرِ النَديِّ قَوافِيًا 

تَسْبِي النُّهَى بِعَبِيرِها الْفَوّاحِ

دُرَرٌ صِحاحٌ لَوْ تُقاسُ بِشِبْهِهَا 

لَبَدَتْ دَرارِي اللَّيْل غَيْرَ صِحاحِ١٣

ما السَّيْفُ فِي كَفِّ الْمُفَزَّعِ قَلْبُهُ 

كالسَّيْفِ فِي كَفِّ الفَتَى الْجَحْجاحِ١٤

الشعْرُ مِنْ سِرِّ السَماءِ فَهمْسُهُ 

وَحْيُ النُّفُوسِ وَراحَةُ الأَرْوَاحِ

كَمُلَتْ صِفَاتُ الراحِ فِي نَشَوَاتِهِ 

وَنَجا فَلَمْ يُوصَمْ بإِثْمِ الراحِ١٥

•••

سِرْ يا قَرِيضُ إِلَى الْعُرُوبَةِ مُسْرِعًا 

وَانْزِلْ بآفاقٍ بِها ونَواحِي

وَامْزُجْ بمِسْكِيِّ الأَثِيرِ تَحِيَّةً 

لِعَشَائِرٍ شُمِّ الأُنُوفِ سِماخِ١٦

شحُّوا بِأَنْ تَلِدَ الْمَكارِمُ غَيْرَهُمْ 

وَهُمُ عَلَى النَّجَداتِ غَيْرُ شِحاحِ

جَعَلُوا مِنَ الْفُصْحَى وَمِنْ آياتِها 

نَسَبًا مُضِيئًا كالنهارِ الضاحِي

الضَّادُ تَجْمَعُهُمْ وَتَرْأَبُ صَدْعَهُمْ 

سِيَّانِ في الأَفْراحِ وَالأَتَراحِ١٧

دارَ الإِذاعَةِ، لا تَمَلِّي إِنَّنِي 

أَطْلَقْتُ لِلأَمَل الْبَعيدِ سَراحِي١٨

حُبُّ الْعُروبَةِ قَدْ جَرَى بِمفَاصِلِي 

بالرَّغْمِ مِنْ هَذِرِ الْحَدِيثِ مُلاَحِي١٩

•••

دارَ الإِذاعَةِ، أَنْتِ بِنْتُ ثَلاثَةٍ 

مَرَّتْ كَوَمْضِ الْبَارِقِ اللَّمَّاحِ

كَمْ فِيكِ لِلْقُرْآنِ رَنَّةُ قارِئٍ 

تَحْلُو لَدَى الإِمْسَاءِ والإِصْبَاحِ

كَشَفَتْ عَنِ النفْسِ الْمَلُولِ حِجابَها 

فَتَوَجَّهَتْ لِلْخَالِقِ الْفَتَّاحِ

الدِينُ سَلْوَى النفْسِ في آلامِها 

وطَبِيبُها مِنْ أَدْمُعٍ وَجِراحِ

أوْدَعْتُه حُزْنيِ فَلَمْ تَعْبَثْ بِهِ 

شَكْوَى ولا صَدَع الدجَى بِنُواحِ٢٠

دارَ الإِذاعَةِ، كَمْ نَشَرْتِ ثَقافَةً 

جَلَّتْ مَآثِرُها عَنِ الإِفْصَاحِ!

كمْ جازَ صَوْتُك مِنْ بِحارٍ سُجِّرَتْ 

وَفَدافِدٍ شُعْثِ الْفِجاجِ فِساحِ!٢١

أَصْبَحْتِ أُسْتاذَ الشُّعُوبِ وَكافَحَتْ 

نَجْواكِ جَيْشَ الْجَهْلِ أَيَّ كِفاحِ٢٢

وَمَلأْتِ بِالْعِلْمِ الْبِلادَ فَنُورُهُ 

فِي كُلِّ مُنْعَطَفٍ وَبُهْرَةِ ساحِ٢٣

تَتَلَقَّفُ الدنْيَا حديثَكِ مِثْلَمَا 

يَتَلَقَّفُ الأَبْرَارُ وَحْيَ الْوَاحِي

•••

دَارَ الإِذاعةِ، أَنْتِ أَمْرَحُ أَيْكَةٍ 

صَدَحَتْ فكانَتْ أيْكَةَ الأفْراحِ

صاحَتْ بَلابِلُكِ الْحِسانُ فَأَخْمَلتْ 

فِي الْجَوِّ صَوْتَ الْبُلْبُلِ الصَيَّاحِ

مِنْ كُلِّ شادِيَةٍ كَأَنَّ حَنِينَها 

هَمْسُ الْمُنَى لِلْيَائِسِ الْكَدَّاحِ

اللَّيْلُ إِنْ نادَتْهُ ماسَ بِعِطْفِهِ فَتَرَاهُ بَيْنَ الْمُنْتَشِي والصَاحِي

كَمْ فِيك مِنْ لَهْوٍ بهِ رِيُّ النُّهَى وفُكاهَةٍ مَحبُوبَةٍ ومُزاحِ!٢٤

النفْسُ تَسْأَمُ إِنْ تَطاوَلَ جِدُّها فَاكْشِفْ سَآمَةَ جِدِّها بِمُباحِ

•••

زُمَرَ الشَبابِ، وَلِي مُلامَةُ ناصِحٍ 

لَوْ تَسْمَعُونَ نَصِيحَةَ النُصَّاحِ!

بِالْعِلْمِ «مَرْكُونِي» تَسَلَّقَ لِلْعُلاَ 

وَبعَزْمَةِ الْوَثّابَةِ الطمّاحِ!٢٥

رَجُلٌ عِصامِيُّ الأَرُومَةِ لَمْ يَنَلْ 

مَجدًا «بآمُونٍ» ولا «بِفِتاحِ»٢٦

تَتَطَلعُ الدنْيا إِلَيْهِ وتَمْتَطِي 

ذِكْرَى مَآثِرِهِ مُتُونَ رِياحِ

إِنَّ التفَاخُرَ بِالْقَدِيمِ تَعِلَّةٌ 

وَالْجَهْلُ لِلْمَجْدِ الْمُؤَثَّلِ ماحِي٢٧

والْعِلْمُ مِصْباحُ الْحَياةِ فَنَقِّبُوا 

مِنْ قَبْلِ أَنْ تَثِبُوا عَنِ الْمِصْباحِ

بَلِيَ السِلاحُ مَعَ الْقَدِيمِ وَعَهْدِهِ 

والآنَ صارَ الْعِلْمُ خَيْرَ سِلاحِ٢٨

الْيَوْمَ فِكْرَةُ عالِمٍ في مَصْنَعٍ 

تُغْنِي عَنِ الأَسْيافِ وَالأَرْماحِ

وَتَصُدُّ كُلَّ كَتِيبَةٍ مَوَّارَةٍ 

خَضْرَاءَ تَفْذِفُ بِالْكُماةِ رَدَاحِ٢٩

أَمْضُوا الْجُهُودَ وأخْلِصُوا لِبلادِكُمْ 

فِي الْجَهْدِ وَالإِخْلاصِ كلُّ نَجاح

لاَ يُرْتَجَى مِنْ أُمَّةٍ مَفْتُونَةٍ 

بِاللَّهْوِ والتسْوِيفِ أَيُّ فَلاحِ

خُوضُوا الصعابَ ولا تَملُّوا إنَّما 

نَيْلُ الْمُنَى بالصبْرِ وَالإِلْحَاحِ

قَدْ يُنْجِدُ اللُّجُّ الْغَرِيقَ بِقَذْفِهِ 

حَيًّا فَيَلْقَى الْمَوْتَ فِي الضَّحْضَاحِ٣٠

الْعَهْدُ مِثْلُكُمُ جَدِيدٌ مُشْرِقٌ 

فَهَلُمَّ لِلإِنْتَاجِ وَالإِصْلاحِ

وَمَلِيكُكُمْ مَثَلُ الشبابِ مُجمَّلٌ 

بِخلائِقٍ غُرِّ الْوُجُوهِ صِباحِ٣١

يَتَفاءَلُ النيلُ الْوَفِيُّ بِعَهْدِهِ 

وَبِيُمْنِ طَلْعَةِ وَجْهِهِ الْوَضّاحِ

سارَتْ مَحَامِدُهُ وسارَتْ خَلْفَها

 تَشْدُو بِسابِغِ فَضْلِهِ أَمْداحِي

هوامش

(١) الساري: السائر في الليل، ولما كان الهواء من الأجسام اللطيفة حسنوصفه بالسري، والمراد أن لطفه يخفيه كما يخفي الليل السائر فيهالمشارف:أعالي الأرض، واحدها مشرفالبطاح: جمع أبطح وهو مسيل واسع فيه دقاقالحصى.

(٢) المغدى: اسم مكان من الغد وهو السير في أول النهارالمسحب: مصدرميمي من سحبه كمنعه، جره على وجه الأرضالمراح: اسم مكان من الرواحوهو السير في العشيالرواح: الذهاب والرجوع.

(٣) المدى: الغايةفياح: عظيم الاتساع.

(٤) يسري: يسير ليلًارمته: طلبته.

(٥) يكبو: ينكب على وجههالظليم: الذكر من النعام يُضرب بسرعة عدوهالمثلالعداء: العدو والجرييكل: يُعيي ويعجزالأجرد: الفرس السباقالسباح: الفرس السريع كأنما يسبح بيديه.

(٦) العوائق: الموانعالحائل: الحاجزالصلد: الصلب الأملس من الحجارةالصفاح: كرمانما كان منها عريضًا رقيقًا.

(٧) دان: قريبعلقت: نشبت واستمسكتالراح: جمع راحة وهي بطن الكف.

(٨) الأشباح: جمع شبح وهو الشخص.

(٩) في هذا البيت إشارة إلى معنى الآية الكريمة: اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُسَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْخِلَالِهِ.

(١٠) المرقش: المزخرف المزوقالأقاحي: جمع أقحوان وهو البابونج من نباتالربيع له نور حواليه ورق أبيض ووسطه أصفر.

(١١) صفوة الشيء: خالصهالماذي: العسل الأبيض.

(١٢) مركب وطيء: لين سهل ذلولالصداح: الذي يرفع صوته بالغناء، ويريدبالشاعر بالطائر الصداح نفسه.

(١٣) الدرر: جمع درة وهي اللؤلؤة العظيمةدراري الليل: كواكبه المضيئةوأحدهما دُري.

(١٤) المفزع: اسم مفعول من فزعته ففزع أي: خافالجحجاح: السيد الماجدالشريف الشجاع.

(١٥) الراح: الخمرالنشوات: جمع نشوة وهي السكريوصم: يعابالإثم:الذنب.

(١٦) المسكي: نسبة إلى المسك وهو أفضل أنواع الطيب عند العربالأثير:مادة لطيفة جدًّا منتشرة في أنحاء الفضاء تنقل النور والحرارة الكهربيةوالصوتالعشائر: جمع عشيرة وهي القبيلةشم الأنوف: جمع أشم الأنف،صفة من الشمم وهو ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء أعلاها، وذلك كنايةعن الأنفة والترفع عن الدنايا، على أن الشمم من صفات العرب الخلقيةسماح: جمع سمح وهو الجواد المعطاء.

(١٧) يريد بالضاد لغةً العربترأب: تصلح وتجبرالصدع: الشقالأتراح: جمعترح وهو ضد الفرح.

(١٨) السراح: الحرية.

(١٩) هذر كلامه: من باب فرح أي كثر في الخطأ والباطلالملاحي: المنازع.

(٢٠) صدع: شقالدجى: جمع دجية وهي الظلمة.

(٢١) جاز المكان: سلكه وسار فيهسجرت: فجرت وامتلأتالفدافد: جمعفدفد وهو الفلاةشعث: جمع أشعث من الشعث وهو الانتشار والتفرقالفجاج: جمع فج وهو الطريق الواسع الواضح بين الجبلينالفساح: جمعفسيح أي: متسع.

(٢٢) كافحت: واجهت وحاربتالنجوى: السر.

(٢٣) منعطف الوادي: حيث ينعطف أي: ينثني ويميلالبهرة: ما اتسع منالأرضالساح: جمع ساحة وهي الناحية وفضاء بين دور الحي.

(٢٤) روى من الماء روى وريا أي: ارتوىالنهى: جمع نهية وهي العقل.

(٢٥) المركيز «ماركوني» عالم إيطالي اخترع بعبقريته أجهزة الإذاعةاللاسلكية، وطوق العالم كله بمأثرة خالدة ومنة من أجل المننتوفي في يوليوسنة ١٩٣٧م، ودفن حيث ولد في «بولونيا» من بلاد إيطاليا في شمالها الشرقي.

(٢٦) العصامي: الشريف النفس المعتمد على همته في كسب المجد وبلوغالأملالأرومة: الأصلالمجد: العز والشرفو«أمون» و«فتاح» إلهان منآلهة قدماء المصريين.

(٢٧) التعلة: ما يتعلل بهالمؤثل: الأصيل العظيم.

(٢٨) بلي الثوب: خلق وتمزقالعهد: الزمان.

(٢٩) موَّارة: سريعة مضطربة لكثرة عددهاخضراء: عظيمة كثيرة السلاحالكماة: جمع كمي وهو الشجاع المدجج أي: شاكي السلاحالرداح: الكتيبةالثقيلة الجرارة.

(٣٠) ينجد: يعيناللج: معظم الماءالضحضاح: الماء اليسير القليل.

(٣١) الخلائق: جمع خليقة وهي الطبيعة والخلقغر: جمع أغر وهو الأبيضصباح: جمع صبيح وهو الجميل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معلقة الأعشى وقصته

  وَدِّع   هُرَيرَةَ   إِنَّ   الرَكبَ   مُرتَحِلُ   وَهَل   تُطيقُ   وَداعاً   أَيُّها   الرَجُلُ غَرّاءُ   فَرعاءُ   مَصقولٌ   عَوارِضُها ...