https://shamela.ws/book/259/1183#p1
الفضل بن يحيى والأعرابي]
ومما جاء في أخبار البرامكة ما رواه الأصمعي قال خرج الفضل للصيدوالقنص. وبينما هو في موكبه إذ رأى أعرابياً على ناقة قد أقبل من صدر البريةيركض في سيره. قال: هذا يقصدني فلا يكلمه أحد غيري. فلما دنا الأعرابي ورأىالمضارب تضرب. والخيام تنصب. والعسكر الكثير والجم الغفير. وسمع الغوغاءوالضجة ظن أنه أمير المؤمنين. فنزل وعقل راحلته وتقدم إليه وقال: السلام عليكيا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال: اخفض عليك ما تقول. فقال: السلامعليك أيها الأمير. فقال: الآن قاربت اجلس. فجلس الأعرابي. فقال له الفضل: منأين أقبلت يا أخا العرب. قال: من قضاعة. قال: من أدناها أو من أقصاها. قال: منأقصاها. فقال: يا أخا العرب. مثلم من يقصد من ثمانمائة فرسخ إلى العراق لأيشيء. قال: قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد. الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد. قال: من هم. قال: البرامكة. قال الفضل: يا أخا العرب إن البرامكة خلق كثير. وفيهم جليل وخطير. ولكل منهم خاصة وعامة. فهل أفرزت لنفسك منهم مناخترت لنفسك وأتيته لحاجتك. قال: أجل أطولهم باعاً وأسمحهم كفاً. قال: منهو. قال: الفضل ابن يحيى بن خالد. فقال له الفضل: يا أخا العرب إن الفضلجليل القدر عظيم الخطر. إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه
لا. قال: أفعارف أنت بأيام العرب وأشعارها. قال: لا. قال: وردت على الفضل بكتابوسيلة. قال: لا. فقال: يا أخا العرب غرتك نفسك. مثلك يقصد الفضل بن يحيىوهو ما عرفتك عنه من الجلالة. بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه. قال: والله يا أميرما قصدته إلا لإحسانه المعروف. وكرمه الموصوف. وبيتين من الشعر قلتهما فيه. فقال الفضل: يا أخا العرب أنشدني البيتين فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهماأشرت عليك بلقائه. وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من ماليورجعت إلى ياديتك وإن كنت لم تستحق بشعرك شيئاً. قال: أفتفعل أيها الأمير. قال: نعم. قال: إني أقول:
ألم تر أن الجود من عهد آدم ... تحدر حتى صار يمتصه الفضل
ولو أن أماً مسها جوع طفلها ... غذته باسم الفضل لاغتذا الطفل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك: هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر وأخذالجائزة عليهما فأنشدني غيرهما. فما تقول. قال أقول:
قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عولة الأبناء
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل ممتحناً هذان البيتان أخذتهما منأفواه الناس. فأنشدني غيرهما. فما تقول وقد
ملت جهابذ فضل وزن نائله ... ومل كتابه إحصاء ما يهب
والله لولاك لم يمدح بمكرمة ... خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل هذان البيتان مسروقان. أنشدنيغيرهما. فما تقول: قال. إذن أقول:
ولو قيل للمعروف ناد أخا العلا ... لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: أحسنت يا أخا العرب فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أيضاً. أنشدني غيرهما فماذا تقول. قال أقول:
وما الناس إلا اثنان صب وباذل ... وإني لذاك الصب والباذل الفضل
على أن لي مثلاً إذا ذكر الورى ... وليس الفضل في سماحته مثل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما فما تقول. قال:أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقامت به التقوى وقام به العدل
وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ... ولم يك للمعروف بعد ولا قبل
قال: أحسنت. فإن قال لك: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين علىالكنية لا على الاسم فما تقول. قال: إذن أقول:
ألا يا أبا العباس يا واحد الورى ... ويا ملكاً خد الملوك له نعل
إليك تسير الناس شرقاً ومغرباً ... فرادى وأزواجاً كأنهم نحل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنيةوالقافية. قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعدها لأقولن أربعة أبيات ماسبقني إليهن عربي ولا أعجمي. ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذهوأجعلها في فم الفضل. ولأرجعن إلى قضاعة خاسراً ولا أبالي. فنكس الفضلرأسه وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة. قال أقول:
ولائمة لامتك يا فضل في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
اتنهين فضلاً عن عطاياه للورى ... فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطر
كأن نوال الفضل في كل بلدة ... تحدر ماء المزن في مهمه قفر
كأن وقود الناس ف كل وجهة ... إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر
قال: فأمسك الفضل عن فيه وسقط على وجهه ضاحكاً. ثم رفع رأسه وقال: يا أخاالعرب أنا والله الفضل بن يحيى. سل ما شئت. فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنكلهو. قال: نعم. قال له: فأقلني. قال: أقالك الله اذكر حاجتك. قال عشرة آلاف درهم. قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك يا أخا العرب. تعطى عشرة آلاف درهم في عشرةآلاف وأمر بدفع المال. فلما صار المال إليه حسده وزير الفضل وقال: يا مولاي هذاإسراف. يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيهبهذا المال.
في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي. فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر وإلافاستعطف مالك ويكون له في بعضه كفاية. فأخذ الفضل سهماً وركبه في كبدقوسه وأومأ إلى الأعرابي وقال له: رد سهمي ببيت من الشعر فأشأ يقول:
لقوسك قوس الجود والوتر الندى ... وسهمك سهم العز فارم به قفري
قال فضحك الفضل وأنشأ يقول:
إذا ملكت كفي منالاً ولم أنل ... فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته ... فلا مبق لي بخلي ولا متلفي بذلي
أروني بخيلاً نال مجداً ببخله ... وهاتوا كريماً مات من كثرة البذل
ثم قال الفضل لوزيره أعط الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ومائة ألفدرهم ليكفينا شر قوائم ناقته. فأخذ الأعرابي المال وانصرف. وهو يبكي فقال لهالفضل: مم بكاؤك يا أعرابي. أإستقلالاً للمال الذي أعطيناك. قال: لا ولكني أبكيعلى مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض. وتذكرت قول محمد بن حمير الهمداني
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت لموته خلق كثير
ثم انصرف الأعرابي مسروراً (أعلام الناس للاتليدي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق