الخميس، 28 سبتمبر 2023

الأدب من فصاحة عبد الماك بن مروان

 جولة أدبية

..

كثيرًا ما يُذكر الخليفة عبد الملك في معرض النباهة والفصاحة، وسأصحبكم فيبعض النوادر التي تشير إلى ذلك:
..

رُوي أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجّاج:
“ما إن أرى لك مثلاً إلا قِدْحَ ابن مُقُبل”، فلم يعرف الحجاج معناهرغم رجاحتةوبلاغة خطبه، واغتمّ لذلك، حتى دخل عليه قُتيبة بن مسلموكان راوية للشعرحافظًا له عالمًا به، فسأله عنه، فقال:
أبشر أيها الأمير، فإنه قد مدحك، أما سمعت قول ابن مُقبل وهو يصف قِدحًا له:

غدا وهو مجدولٌ وراح كأنه *** من الصكِّ والتقليب فى الكفّ أفطحُ
خَروجٌ من الغُمّى إذا صُكَّ صكَّةً *** بدا والعيونُ المستكفّة تلمح

(القِدح، جقِداحقطعة من الخشب تُعرَّض قليلاً وتُسوّى، وكانت تستعمل فيالميسِر، أو هو سهم القمار، مجدول: مُدمج بعضه إلى بعض، الصك: الضرببالقِداح، الأفطح: العريض، الغمّى: الضيق والشدة، المستكفّة: التي تنظر إليهوإلى غيره من القِداح).
..

يعني أن الخليفة يُراهن على الحجاج لقدرته في الخروج من كل ضائقة، فهوكالقِدح يعرّض، ويُعرك وترمقه العيون في تأثيرهوبالتالي فهو يمدح واليه علىالعراق.

(انظر الثعالي: ثمار القلوب، ص 218- مادة 290- “قِدح ابن مقبل: يضرب مثلافى حسن الأثر).
..
يُحكى عن عبد الملك أنه كتب للحجاج مرة أخرى:
“أما بعد، فإنك سالم والسلام”!
فلم يدر ما معناه، حتى نُبّه على أنه أراد قول عبد الله بن عمر في ابنه سالم:

يديرونني عن سالم وأديرهم *** وجلدة بين العين والأنف سالم
فموقع سالميعنى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، في أعز مكانوهوجلدة بين الأنف والعين، وهذا يدل على شدة حب الأب لابنه، فقد كان يكلَف بهحتى إنه كان يقبّله، وقد شاخ الابن، ويقول: “شيخ يقبّل شيخًا”!
فالمقولة إذن تدل على شدة حب الخليفة للحجاج.

قال عبد الملك بن مروان يومًا لجلسائه -وكان يتجنب غير الأدباء-:
أي المناديل أفضل؟
فقال قائل منهم: مناديل اليمن، كأنها أنوار الربيع.
وقال آخر: مناديل مصر، كأنها غِرقئ البيض (أي قشره).
فقال عبد الملك: ما صنعتم شيئًاأفضل المناديل “مِنديل عَبْدة”يعنى عَبْدةَ بنالطَّبيب فى قوله من قصيدة:
لما نزلنا نصبنا ظلَّ أخبية *** وفار باللحم للقوم المراجيل
وردًا وأشقر لم يُهْنِئه طابخه *** ما غيَّر الغَلْيُ منه فهو مأكول
ثُمَّتَ قمنا إلى جُرْدٍ مسَوَّمةٍ *** أعرافُهن لأيدينا مناديل

(المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج1، ص 445).
المراجيل جمع مِرْجَل وهو القدر، وقد أضيفت الياء للضرورة،
ظل أخبية وردت في “المفضليات (المفضلية 26)“رفعنا ظل أردية”، وكلاالتعبيرين كناية عن الاستعداد للطهي.
البيت الثاني: شبه ما نضج من اللحم بالورد، وما لم ينضج بالأشقر، لم يُنهئهلم ينضجه.
مأكوليأكلونه قبل تمام نُضجه.
البيت الثالث: ثم قمنا إلى الخيل القصار الشعر، وهي معلَّمة، فهم يمسحونأيديهم من بقايا الطعام بأعرافها.
..
ويقصد عبد الملك في هذا المشهد أنه يفضل أكل الشواء بعد الصيد ويمسحالوضَر بعُرف حصان الصيد نفسه.

والأصل فى هذا المعنى قول امرئ القيس
نَمُشُّ بأعراف الجياد أكفَّنا *** إذا نحن قمنا عن شِواءٍ مُضّهَّب
نمش: نمسح، المضهب: الذي لم يُدرَك نُضجه، يصف أنهم لم ينتظروا نضحالطعام لعجلتهم.
..

على ذكر أبيات عبْدةفقد تذكرت قصة فاجأتني يوم أن قرأتها.
وهي تروي حكاية أبي علي القالي – صاحب الأمالي، وقد أخطأ وهو متوجهضيفًا إلى الخليفة الناصر في الأندلس، أخطأ على سَعة علمة وغزارة إنتاجه،وقوة حافظته.
سها وظل على سهوه، فما كان من أحد العلماء (الإلبيري) الأندلسي إلا أن يحتجويغادر الموكب ترفعًا عليه.
إليكم القصة التي وردت في كتاب المَقّري(نفح الطيب من غصن الأندلسالرطيب، ج3، ص 70- 71):
“في أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمنالخليفة الأندلسي، وكان ابنهالحكم يتصرف عن أمر أبيه كالوزير،
“أراد عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي القالي إلى قرطبة، ويتلقاه فيوفد من وجوه رعيته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة لأبي علي، ففعل،وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم،ويتناشدون الأشعار، إلى أن تحاوروا يومًا وهم سائرون في أدب عبد الملك بنمروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة ابن الطبيب:
ثمت قمنا إلى جرد مسومة *** أعرافهن لأيدينا مناديل
وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبو علي، فأنشد الكلمة في البيت:
“أعرافها لأيدينا مناديل”.
فأنكرها ابن رفاعة الإلبيري، وكان من أهل الأدب والمعرفة، وفي خلقه حرجوزعارة، فاستعاد أبا علي البيت متثبتًا مرتين، وفي كلتيهما أنشده “أعرافها”.
لوى ابن رفاعة عنانه منصرفًا، وقال:
مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيتمشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه، والله لا تبعتُه خطوة!
وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة،وكتب إلى الحكَم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه، فأجابه على ظهركتابه:
الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطِّىء وافد أهل العراق إلينا،وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدعه لشأنه، واقدم بالرجل غيرمنتقص من تكرمته، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى انأو يحطه.
..
أجواء أدبية كانت، تحت رعاية الخلفاء المثقفين، فأين نحن اليوم منهم؟ وأين هممنا؟

بفاروق مواسية عبد الماك بن مرو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معلقة الأعشى وقصته

  وَدِّع   هُرَيرَةَ   إِنَّ   الرَكبَ   مُرتَحِلُ   وَهَل   تُطيقُ   وَداعاً   أَيُّها   الرَجُلُ غَرّاءُ   فَرعاءُ   مَصقولٌ   عَوارِضُها ...