مواقف الوداع في الشعر العربي
في هذا السياق نسلط الضوء على مواقف الوداع في قصائد الشعراء الأقدمين، والمحدثين ونرصد هذا الجانب العاطفي ونعرض بعض الشواهد والمواقف التي تذكرنا بأن حياة الإنسان رحلة تبدأ بالولادة وتنتهي بانتهاء الأجل ، وفي مشهد الوداع تسيل الدموع، وتتأجج المشاعر وتتهافت الأحلام، وهذه المواقف تعني الفراق والبعد وعند العشاق وخاصة الشعراء تشبه انفصال الروح عن الجسد، وتبلغ المشاعر ذروة الانفعال وتحترق الأنفاس وتظلم الدنيا في عيني العاشق الولهان حتى يشعر كأن روحه فارقت جسده. وقد عبّر الشاعر المغمور "عمر بن أحمد" عن رحيل الأحبة وكأنها مهج تفارق أجسادها قال :
أنى الرحيل فحين جدّ ترحلت =مهج النفوس له عن الأجساد
من لم يبت والبين يصدع قلبه =لم يدر كيف تفتت الأكباد
قال الشاعر محمد بن القاسم ابو الحسن الملقب" ماني الموسوس"
لمّا أناخوا، قُبيل الصبـحِ، عيسهـمُ
وثوّروها فثـارت بالهـوى الإبِـلُ
2 وأَبرزت من خلال السّجف ناظرهـا
ترنو إلـيَّ ودمـع العيـنِ ينهمـلُ
3 وودَّعـتْ ببنـانٍ خلـتُـهُ عنـمـاً
فقلتُ: لا حملتْ رجـلاكَ يـا جمـلُ
4 ويلي من البينِ مذا حلَّ بـي وبهـا
من نازحِ الوجدِ حلَّ البينُ فارتحلـوا
5 يا حادي العيسِ عرَّج كي أودِّعهـا
يا حادي العيسِ في ترحالكَ الأجـلُ
6 إنّي على العهدِ لم أنقض مودتهـم،
يا ليت شعري بطول العهدِ ما فعلوا؟
وهذه قصة شاب عاشق كان يحب فتاة من غير قبيلته فلما ألم بالديار لم يجد مضارب القوم فدخل ديراً بالقرب منها وسأل الراهب : هل مرت به الإبل التي كانت تحمل متاع القوم ؟! وقد رأى ذلك الراهب أمارات العشق واللوعة على وجهه وقد ضاقت به الحيل أشفق عليه ورثى لحاله ومدّ له ظلاً ندياً من عطفه وأخبره بأن القوم قد رحلوا وكانت الصدمة فوضع الفتى يديه على رأسه وشبك أصابعه عليه خشية أن ينفجر وأخذه دوار :
لما علمت بأن القوم قد رحلوا =وراهب الدير بالناقوس مشتمل
شبكت عشري على رأسي وقلت له =يا راهب الدير : هل مرت بك الإبل
إن البدور اللواتي جئت تطلبها بالأمس= كانوا هنا واليوم قد رحلوا...
يقول ابن زريق في مشهده الوداعي المخلوط بلوعة الندم منذ المفردة الأولى:
استودع الله في بغداد لي قمرا =بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني = صفو الحياة وإني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى = وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا اكذب الله ثوب الصبر منخرق= عني بفرقته لكن أرقعه
رزقت ملكا فلم أحسن سياسته =وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا = شكر عليه فإن الله ينزعه
قال مجنون ليلي في وداع محبوبته
ومما شجاني أنها يوم ودعت........تولت وماء العيون في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيدٍ بنظرةٍ..........إليَّ التفاتاً.. أسلمته المحاجر
قال البهاء زهير ساعة وداع محبوبته
جـاءت تودعنـي والـدمع يـغـلـبـهــا ـــــــــــــــ يوم الرحيل وحادي البين منصلت
وأقبلت وهي في خوف وفي دهش ـــــــــــــــ مـثـل الـغـزال مـن الأشراك ينفلت
فـلـم تـطـق خـيـفة الواشي تـودعني ـــــــــــــــ ويـحَ الـوشـاة لـقد قالوا وقد شمتوا
وقـفـت أبـكـي وراحـت وهـي باكية ـــــــــــــــ تـسـيـر عـنـي قـلـيـلاً ثـم تـلـتـفـت
فـيـا فـؤاديَ كـم وجــدٍ وكـم حُـرَق ـــــــــــــــ ويـا زمـانـيَ ذا جــور وذا عـنـت
وهذه الأبيات لحطان بن المعلى شاعر أسلامي من شعراء الحماسة ، كان واحداً من الخوارج فذاق حياة الخوف والاغتراب والتنقل بين القبائل، والابتعاد عن أسرته وأولاده يوماً بعد يوم يحدثنا عن حاله مع تقلب الأيام :
أنزلني الدهـر علـى حكمـه=من شامخ عال إلـى خفـض
وغالني الدهـر بوفـر الغنـى=فليس لي مال سوى عرضـي
أبكانـي الدهـر ويـا ربما=ضحكني الدهـر بمـا يرضـي
لـولا بنيـات كزغـب القطـا=رددن من بعض إلـى بعـض
لكان لـي مضطـرب واسـع=في الأرض ذات الطول والعرض
وإنـمـا أولادنــا بيـنـنـا=أكبادنا تمشـي علـى الأرض
لو هبت الريح علـى بعضهـم=لامتنعت عيني مـن الغمـض
قال محمد بن يزيد بن مسلمة
ما لداري منك مـقـفـرة ... وضميري منك مأهـول
وبدت يوم الـوداع لـنـا ... غادة كالشمس عطـبـول
تتعاطى شـد مـئزرهـا ... ونطاق الخصر محلـول
شملنا إذ ذاك مجـتـمـع ... وجناح البين مـشـكـول
ثم ولت كـي تـودعـنـا... كحلها بالدمع مغـسـول
أيها الـبـادي بـطـيتـه ... ما لأغلاطك تحـصـيل
قد تأولت عـلـى جـهة ... ولـنـا ويحـك تــأويل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق