الجمعة، 11 أغسطس 2023

قصة رجاءُ بن حيوة الكندي محل ثقة الدولة الأموية

 

رجاءُ بن حيوة الكندي.. ماذا تعرف عن زعيم الدولة الأموية العميقة وباني قُبة الصخرة؟

كان رجاء بن حيوة وزيرا ومستشارا وقيّما على عُمّال الأمويين وأولادهم".

(ابن عبد الحكم المصري في كتابه "سيرة عُمر بن عبد العزيز")

كان استشهاد الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفّان الأُموي عام35هـ/655م، وارتقاء الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب الهاشمي -رضيالله عنه-، بداية لخمس سنوات من الفتن والحروب والصراعات الداخلية بينفريق رأى أولوية استتباب الأمن وعودة الهدوء وطاعة الأمصار للخليفة الجديد،ومن ثم القصاص من قتلة عثمان لقوة قبائلهم واختلاط الناس يومئذ، وعلىرأس هؤلاء الخليفة علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن العباس -رضي اللهعنهما-، وفريق آخر رأى أن بقاء هؤلاء القتَلَة في المدينة تحت عين الخليفةوسمعه وبصره أمر لا يمكن السكوت عنه، وعلى رأسهم معاوية وعائشة وطلحةوالزبير بن العوام -رضي الله عنهم-.


وقد انقسمت الأمة، واشرأبَّت أعناق الفتنة، وتلاحى المسلمون يومذاك، حتىاستُشهد علي -رضي الله عنهفي مُصلاه على يد ابن مُلجم في رمضان سنة40هـ/660م، وحمل الراية من بعده ابنه الحسن بن علي بن أبي طالب  49هـ)-رضي الله عنهالذي أيَّده عموم أهل العراق وقسم من الجزيرة العربية فيمسعاه في خلافة والده، وإعادة توحيد الأمة بعدما اختلفت بين علي ومعاوية-رضي الله عنهما-، لكن الحسن أدرك خذلان أهل الكوفة له، وميل كفّة القوة ناحيةأهل الشام ومعاوية، فآثر أن يتخذ طريق الدبلوماسية والمفاوضات، وأن تتحدالأمة بدلا من سقوطها في دوامة القتل والدم، فخلع نفسه، وبايع هو وأخوهالحسين -رضي الله عنهماوكبار مؤيديه من الصحابة وأبنائهم وأهل العراقمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهعام 41هـ، المسمّى بعام الجماعة،شريطة أن يرجع الأمر شورى إلى الأمة بعد وفاته.

وبذلك قامت دولة الخلافة الأموية، وأضحى معاوية خليفة هذه الأمة، فدامتدولتهم في الفرعين السُّفياني والمرواني لمدة إحدى وتسعين سنة هجرية، بمايعادل تسعين أو تسعا وثمانين ميلادية (41-132هـ/661-750م)، تولَّى فيهاالخلافة منهم أربع عشرة خليفة، أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بنمحمد بن عبد الملك بن مروان.

واجه الأمويون العديد من التحديات والمشكلات الخطيرة مع ارتقاء معاوية، فلئنتنازل الحسن بن علي وتوحَّدت الأمة تحت رايته، فإن فريقا من هذه الأمة وهمطوائف الخوارج لم يرضوا عن التسوية السياسية التي تمت، وقد استغلالبيزنطيون من ناحيتهم هذه الأحداث فأعادوا الهجوم على الثغور وفي البحرالمتوسط، وهو تحدٍّ نجح الأمويون في مواجهته، فاستأنفوا الفتوح في المشرقوالمغرب، فضلا عن نجاحهم في تحقيق الأمن الداخلي والعدالة الاجتماعية،وتوزيع العطايا وغيرها من الملفات.

بيد أن هذا النجاح على صعيد السياسة الداخلية والخارجية لم يكن من صُنعالأمويين وحدهم، فهم في نهاية المطاف أسرة حاكمة اتكأت على رجال من الأمةعملوا في الظلّ مستشارين ومؤسسين "للدولة العميقة"، واستطاعوا تقديمالنصح والإرشاد، وأشرفوا بنجاح لافت على العديد من المسائل المفصلية آنذاك.

ويأتي على قمة الهرم من هؤلاء رجاء بن حيوة الكِنْدي الفلسطيني، الفقيه ورجلالسياسة المخضرم، الذي ألقى إليه الأمويون بثقتهم وثقلهم، فمَن هو رجاء بنحيوة؟ وكيف تمكَّن بمرور الزمن أن يصبح -بلا مبالغةرأس الدولة العميقة عندالأمويين؟ وما أبرز الملفات التي تولَّى الإشراف عليها؟


وُلد رجاء بن حيوة بن جرول بن الأحنف بن السمط الكِنْدي في مدينة بيسانالتابعة لـ"جُند/مقاطعة الأردن" آنذاك، ثم انتقل إلى فلسطين واستقر في بيتالمقدس حتى مماته، وقد التقى في صغره مع والده بالصحابي معاذ بن جبلأحد فاتحي الشام والأردن  18هـ)، وأشار معاذ على والده بتعليمه القرآن، ممايدل على أن رجاء وُلد قبل وفاة معاذ ببضع سنين، وكان جدّه جرول بن الأحنفالكندي من الصحابة الذين أدركوا النبي -صلى الله عليه وسلموروى عنهحديثا. [1].

بعدما تعلَّم القرآن الكريم وحفظه في بيت المقدس، أخذ رجاءُ علومَ الفقه والحديثعلى يد العديد من الصحابة مثل عُبادة بن الصامت الأنصاري وأم الدرداء،وشيئا فشيئا ذاع صيتُ رجاء حتى أصبح واحدا من أعلم فقهاء ومشاهيرفلسطين والشام قاطبة، وكان بعض كبار علماء الأمة في عصره يقول: "رأيتُثلاثة ما رأيتُ مثلهم: محمد بن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز،ورجاء بن حيوَة بالشام"[2].

لكن اللافت أن رجاء لم يكن يرى -كما بقية علماء الشام وزهّادهم آنذاكأن الزهديقتصر على القيام بالفرائض والنوافل وقمع الشهوات والإعراض عن الملذاتوالترغيب في الآخرة، بل كان يرى أنه عمل واجتهاد ومشاركة في الحياة العامةوالإشراف عليها، والعمل على وحدة الأمة، ولهذا السبب انخرط رجاء في جهادالروم البيزنطيين، والعمل في دواوين الأمويين مثل ديوان الرسائل (وزارةالخارجية)[3].

وكان اقتراب رجاء بن حيوة من الأمويين منذ زمن معاوية بن أبي سفيان، ويبدوأن هذه العلاقة بدأت منذ ما قبل خلافة معاوية حين كان واليا على الشام، ففي"الطبقات الكبرى" لابن سعد البصري  251هـ) نرى رجاء يأخذ الحديثالنبوي الشريف مِن معاوية في حديث "مَن يُردِ اللهُ به خيرا يُفقِّهه في الدين". [4].


وبعد انتقال الخلافة الأموية إلى البيت المرواني بداية من عام 64هـ/683م علىيد مروان بن الحكم الأموي  65هـ)، أصبح رجاء من المقربين لهذه الأسرة لمارأوه فيه من نزاهة وعلم وانخراط حكيم في شؤون الدولة الإدارية، وسعيهالحثيث لتوحيد راية الأمة بعدما انقسمت من جديد بين الصحابي عبد الله بنالزبير بن العوام -رضي الله عنه 73هـ) وعبد الملك بن مروان  86هـ)، وقداختار رجاء أن يكون في صف الأمويين وفق تقديره للظروف وقراءته للواقعآنذاك.

واللافت أن عبد الملك بن مروان قبل خلافته كان من فقهاء وعلماء المدينة السبعةالمشاهير من جيل التابعين الكبار، وهو في هذا مثل رجاء، وإن كان عبد الملكأصغر سِنًّا؛ ورغم ذلك كان رجاء يُحدِّث عن عبد الملك بن مروان "لغزارة علمه" كمايخبرنا الذهبي في "سير أعلام النبلاء"؛ ومن هنا نُدرك أن علاقة رجاء بن حيوةبالبيت المرواني كعلاقته بالبيت السفياني سابقا كانت تقوم أولا على الصلةالعِلمية قبل السياسية، وذاك زمان كان العلم والدين والسياسة تتداخل بشكلأوثق من يومنا هذا.

ولهذا عمل رجاء بن حيوة وسيطا دبلوماسيا في حرب الأمويين والزُّبيريين، فقدكان كلٌّ من عبد الله بن الزبير بن العوام وأخوه مصعب في الحجاز والعراقيعملون على التوسُّع على حساب عبد الملك بن مروان في الشام ومصر، وظلَّوافي حروب ومناوشات استمرت عشر سنوات، وكان أحد التابعين الكبار المؤيدينلمصعب بن الزبير في العراق، وهو زُفر بن الحارث الكلابي، يقود بعض هذهالمواجهات، فأرسل عبد الملك بن مروان رجاءَ بن حيوة لزُفر لكي يدعوه إلى طاعتهويدخل في حلفه[5]


على أن أهم وأعظم ما قام به رجاء بن حيوة تكليفه من قِبل عبد الملك بن مروانبالإشراف على بناء قُبة ومسجد الصخرة في حرم المسجد الأقصى، وقد أعطاهمن الذهب أطنانا في سبيل ذلك، واستمر إشرافه وعمله على تحقيق هذاالمشروع الكبير طوال ست سنوات كاملة ما بين 66-72هـ/685-691م، فلماانتهى من بنائها وتوفَّر من نفقاتها مئة ألف دينار ذهب (ما يقارب 25 مليوندولار)، كتب رجاء إلى الخليفة عبد الملك يخبره بذلك، فطلب منه عبد الملك أنيأخذ هو ومساعده الفقيه يزيد بن سلام هذا المبلغ نظير جهدهما الكبير لإتمامهذا المشروع، لكنهما رفضا قائلين: "نحن أولى أن نزيدَ من حُلي نسائنا فضلاعن أموالنا"[6]، فأمرهما عبد الملك بصهر هذا الذهب وسبكه على قبة الصخرة!

وبهذه العفّة عن النظر والتطلُّع إلى الأموال العامة، جنبا إلى جنب معدبلوماسيته الناجحة، كسب رجاء ثقة عبد الملك بن مروان الذي عيّنه خازنالبيوت المال (وزيرا لمالية الدولة)، وأسند إليه مع ذلك مهمة تربية ابنه سُليمان بنعبد الملك  99هـ)، ثم أرسله عبد الملك برفقه أخيه بِشر بن مروان حين ولّاهالعراق مستشارا له، وأمره أن يصلي بالناس، فكان مستشارا مؤتمنا، وفيالوقت ذاته كان يلتقي بعلماء العراق فيأخذ منهم ويأخذون منه، كما عُيّنمستشارا لوالي مصر وأخي عبد الملك بن مروان، عبد العزيز بن مروان، وعلتمنزلته عند الأسرة الأموية الحاكمة، فكان من رأيه عدم قتل المشاركين في ثورة ابنالأشعث المسلحة، وهي إحدى أخطر ثورات العراق ضد الدولة الأموية، فأخذ عبدالملك برأيه وعفا عنهم، ولهذه المنزلة الكبيرة اتخذه أبناء عبد الملك بن مروان بعدأبيهم "وزيرا ومستشارا وقيّما (مشرفا) على عُمّالهم وأولادهم"[7].


وقد اتخذه الوليد بن عبد الملك بن مروان (86-96هـ) مستشارا مقربا، لكنسليمان بن عبد الملك (96-99هـ)، الذي كان رجاء بن حيوة شيخه وأستاذهومُعلِّمه في مرحلة الصبا والفتوة، قد جعله في منزلة عالية حتى غلب علىالدولة كلها، وفي ذلك يقول اليعقوبي المؤرخ: "كان رجاء بن حيوة غالبا علىسليمان بن عبد الملك"، ووصفه العلامة الذهبي بأنه "كان وزيرا لسليمان بن عبدالملك"[8]. ويصفه الذهبي أيضا بـ"الإمام القدوة، والوزير العادل"[9].


ومع عمله وزيرا ومستشارا مهيمنا على سياسة الخليفة سُليمان بن عبد الملك بنمروان؛ كان رجاء يُشير عليه بالرأي الذي يُفيد الصالح العام، ويسهل على الناسأمور دينهم ودنياهم، فقد كان بينه وبين الفقيه عبد الله بن موهب عداوة بالغة،ورغم ذلك زكّاه وأيَّده في تولي منصب القضاء، يقول: "ولو خُيِّرتُ بين أن أُحملَإلى حُفرتي (قبري) وبين ما وُلِّي ابن موهب لاخترتُ أن أُحمل إلى حُفرتيقال(سائله): إن الناس يزعمون أنك الذي أشرتَ بهقال: صدقوا إني إنما نظرتُللعامة ولم أنظر له"[10].

ولهذه المكانة البليغة والمنزلة العظيمة كان سليمان لا يخرج عن رأيه فيالسياسة العامة للدولة الأموية، ولا يكاد يمضي قرارا إلا بمشورته، حتىوسُليمان على فراش الموت، كان رجاء بن حيوة يُشير عليه بأكثر الناس ديناوأمانة في بني أمية ليخلفه، وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان، ابن عم سليمان،مُقدِّما إياه على إخوته الأحياء يزيد وهشام وسعيد ومسلمة وغيرهم، يقول ابنعبد الحكم المصري  214هـ) في "سيرة عمر بن عبد العزيز": "فأشار عليهرجاء بعُمر (بن عبد العزيز)، وسدّدَ له رأيه فيه، فوافق ذلك رأي سُليمان، وقاللأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب"[11].

كتب سليمان بن عبد الملك وصيته فيمَن يخلفه وختمها وأعطاها إلى رجاء بنحيوة، ثم دعا أهل بيته وإخوته فبايعوا على كتاب الوصية وهو مختوم، ثم لمامات سليمان أخذ رجاء الوصية المختومة وأعلن البيعة في المسجد، ثم فتحالوصية وأعلن استخلاف عمر بن عبد العزيزولقد جمعت بين رجاء وعُمر قبلالخلافة "صداقة وصُحبة في نُسكهم وعبادتهم"[12]، لذا جعله عُمر على رأسالمستشارين له، وولّاه رئاسة ديوان الرسائل، وكان لا يخرج عن رأيه إذا استشاره.


وكان عُمر بن عبد العزيز يرى لرجاء الفضل والمكانة والمنزلة الكبرى، وذات يوم،بات رجاء عند عمر فهمَّ السراجُ أن يخمد (ينطفئ)، فقام إليه (رجاء بن حيوة)ليُصلحه، فأقسمَ عليه عمر ليقعُدن، وقام عمر فأصلحه، "قال: فقلتُ له: يا أميرالمؤمنينأتقومُ أنت؟قال: قمتُ وأنا عُمر ورجعتُ وأنا عمر"[13]!

ولعل هذه العلاقة المميزة بين رجاء وخلفاء البيت المرواني؛ عبد الملك وابنه الوليدوسليمان وابن أخيه عمر بن عبد العزيز، جعلت المؤرخين يصفونه بـ"زاهد بنيأمية، والحاكم بأمره في دولتهم"، ووصفه ابن كثير بأنه كان "وزير صدق لخلفاء بني  أمية"، وهي صفات تؤكِّدها حوادث التاريخ التي استعرضنا بعضها.

ولهذا السبب تحديدا، نقم عليه المتأخرون من بعض خلفاء بني أمية وعلىرأسهم يزيد بن عبد الملك بن مروان (101-105هـ/719-723م)، لا سيما بعد مقتلابن عمّه الخليفة عمر بن عبد العزيز بالسُّم سنة 101هـ/719م على أرجح الآراء،وكان المحدث والمؤرخ ابن الجوزي يرى ذلك قائلا: "كان يصحبُ خلفاء بني أمية،ويأمرهم بالمعروف، فلما مات عُمر بن عبد العزيز انقطع عن صحبتهم"ويوافقهالعلامة الذهبي الذي يقول: "كان رجاء بن حيوة كبير المنزلة عند سليمان بنعبد الملك وعُمر بن عبد العزيز، وأجرى الله على يديه الخيرات، ثم إنه بعد ذلكأُخِّر، فأقبل على شأنه"[14].

أقبل رجاء بن حيوة إذن على شؤونه الخاصة، وعلى رأسها العلم، فظل حتىوفاته عام 112هـ/730م واحدا من أشهر علماء ووعّاظ بيت المقدس وفلسطينوالشام قاطبة، وأكثرهم صيتا وشأنا، لكن دوره السياسي كان مفصليا في الدولةالأموية، حتى إننا يمكن أن نصفه بزعيم الدولة الأموية العميقة، ومُوجِّهبوصلتها لعدة عقود، ولا شك أن ابتعاده عن السياسة في السنوات العشرالأخيرة من حياته كان له تأثيره السلبي على مسار هذه الدولة؛ إذ لم تمرعشرون سنة على وفاته حتى سقطت دولة بني أمية في المشرق سنة132هـ/750م دون رجعة!

المصدر ميدان الموسوعة

قصيدة صالح بن عبد القدوس في النصح

 #كل بيت في هذه القصيدة يعادل كتابا..  هي إحدى القصائد الخالدة للشاعر #صالح بن عبدالقدوس احد شعراء الدولة العباسية ..  تمعّنوا بكلماتها ومعا...